مجلة ضياء الفكر
مجلة ضياء الفكر للأبحاث والدراسات

مستقبل الإنسانية

تحميل الملف pdf

 أ. حسن علي شكرون

مجلة ضياء الفكر للبحوث والدراسات

العدد الأول

ص ص 114 – 116

 المقالة:

وَطَأَ الإنسان الأرض ثمّ ما لبث أن بحث عن غاية وجوده، فكانت الإنسانيّة بمعناها العامّ سبيلَه لتشييدِ أسوارٍ حول هذا الوجود حمايةً وتمكينًا له في الأرض سيّدًا مُطلقًا على كائناتها. والإنسانيّة وإن اختلف البشر في سماتها الخاصّة، إلّا أنّهم اتّفقوا على مجموعة من القيم أدْخلتِ المجتمعات المختلفة صرحَها المقدّس، فكانت لجنة لحماية حقوقها، وأنظمة وقوانين لرعاية وجودها وتشذيبها من التّجاوزات اللاإنسانيّة. وإذا ما صارت الإنسانيّة قيمةً تُحدّد حقّ الكائن البشريّ في الحياة، فالافتراض هنا أنّ كلّ سلوك يُخرجُ هذا الكائن من صرحها، سيجرّده من حمايتها حاكمًا عليه بالموت، تمامًا كما حكم البشر على كلّ الكائنات الأخرى.

ألم يقتل الإنسان الحيوانات ليأكل ويلبس ويصنع؟ ألم يقتل ليسكن ويتدفّأ ويستجمّ ويتطوّر؟ أمام هذه الفرضيّة نسأل: ما هي السّمات الّتي تهب الكائن البشريّ وسام الإنسانيّة؟ وهل إذا ما استحقّت كائنات أخرى – طبيعيّة كانت أم اصطناعيّة- هذا الوسام دخلَت هي أيضًا ذلك الصّرح المقدّس، وشاركتنا الكوكب حقوقًا وواجبات ونفوذًا وهيمنة؟

من البديهيّ عندما تسأل إنسانًا عن مميّزاته الإنسانيّة أن يعدّد لك دون كثير من التّمحيص والتّأمّل مميّزات كثيرة مثل: التّفكير، الشّعور، حرّيّة الاختيار، الإرادة، الشّكل، القوانين والأنظمة… ومن البديهيّ أن يستشهد بأقوال دينيّة ووضعيّة لتعزيز تلك المميّزات، فالله خلقنا على أحسن تكوين، صورة عن كماله، واستخلفنا في الأرض، ومكّن لنا فيها، ونحن حيواناتٌ ناطقة عاقلة، حرّة، تشعر وتدرك أنّها تشعر، وتعي غاياتها ووجودها ورسالتها…

وما تلك المميّزات برأيي إلّا ثانويّة، إذ تتشاركها مع الإنسان كثيرٌ من الكائنات الطّبيعيّة الأخرى على هذا الكوكب، وإنْ بِنِسَبٍ متباينة. فبعض الحيوانات تفكّر، ولديها قدرة على التّعلّم والتّكيّف والتّطوّر، وكلّ الكائنات تمتلك روحًا، ويمكنها أن تشعر، وأن تعبّر بطريقتها عن مشاعرها، ويمكنها أن تتواصل بلغتها الخاصّة، ولكلٍّ منظومة قوانين تحكم وجوده ولو كانت غريزيّة، فحتّى على الغريزة قد تتمرّد بعض الكائنات، فتتغيّر.

أمّا بالنسبة للإرادة وحريّة الاختيار فذلك نقاشٌ قد يطول. فما معنى الحريّة حقيقة؟ وهل الإنسان حقًّا حرٌّ أم أنّه يعيش وهم الحريّة؟ هل هو مخيّرٌ أم مسيّر؟ هل هناك قوى ميتافيزيقيّة تتحكّم به؟ هل هناك قوى ماديّة تكبّل حريّته بقيود ذهبيّة رقميّة لامعة، فيظنّ أنّه المتحكّم ولكن؟!

إذًا، لا نرى إلّا القوّة عاملًا أساسيًّا يحدّد إنسانيّة البشر. فطالما نحن متفوّقون علميًّا وتقنيًّا على سائر كائنات المعمورة، ستبقى الإنسانيّة حكرًا علينا. بها نسود، نبيح قتلًا هنا باسم البقاء، واستنزافًا هناك باسم التّطوّر، وشريعة هنالك باسم الحقّ. ولن يدخل في المدى المنظور شريك لنا في الملْك إلّا إذا طرأ حدث مستقبليّ سيزلزل هذه المنظومة مبدّلًا هويّة الإنسانيّة ومعناها.

نحنُ نصنع خليفتنا في الأرض، ذلك يقينٌ لا لُبسَ فيه، مهما طال أمدُ ذلك. في المستقبل أولادُنا سيقضون أوقاتهم باللّعب مع كائنات رقميّة، وستشاركنا الرّوبوتات الذكيّة العمل في المصانع والمدارس والمستشفيات والحقول والمحلّات التّجاريّة. ومع اندماج التّكنولوجيّات المستقبليّة النّانويّة والرّقميّة والبيولوجيّة سيصعبُ علينا التّمييزُ شكلًا ومضمونًا بين إنسان حيويّ وآخر روبوتي حيويّ أو مهجّن أو مستنسخ أو معدّل جينيًّا. ومع انطلاق ثورة الذّكاء الاصطناعي سيسأل الرّوبوت نفسه أسئلة عن وجوده ومعناه، وحرّيته وحدودها، وعلاقته بالإنسان ثمّ بالإنسانيّة. ولأنّه سيفوقنا قوّة، قد نكون سلّمنا له الأرض ومن عليها ليُخرجَنا من صرح الإنسانيّة الّتي جهدنا في تمكين دعائمها. وقد يحكم علينا بالإبادة بحجّة البقاء!

وجهًا لوجه سيقف الإنسانان مجازًا وافتراضًا، وكلّ منهما قبل أن يضغط على الزّناد سيفكّر لوهلة: إنّه يشبهني، يفكّر، يحلم، يعي، يتكلّم، يتذكّر… أيحقّ لي أن أقتله؟ هنا تمامًا سيعي البشر أنّهم فقدوا حصريّتهم للإنسانيّة. قد تبدو هذه الفرضيّات ضربًا من الجنون عند الأغلبيّة، لكنّ التّاريخ سلسلة دائريّة لم تنقطع يومًا. فالديناصورات حكمتِ الأرض عندما كانت الأقوى، وانقراضُها سمح لكائنات أخرى بالبقاء ثمّ السّيادة. وما انقراض البشر إلّا على مرمى فيروس أو قنبلة نانويّة بينما البديل جاهزٌ في مختبراتنا قيد التّجربة. نعم، نحن نصنع خليفتنا في الإنسانيّة.

 آليّات التّغيير -مقالات استشرافيّة

 

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط